الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

قصيدة غريب على الخليج - للشاعر بدر شاكر السياب

غريب على الخليج


 للشاعر بدر شاكر السياب



الريح تلهث بالهجيرة، كالجُثام، على الأصيل

و على القُلوع تظل تُطوى أو تنشر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوَّابو بحار
من كل حافٍ نصف عاري
و على الرمال ، على الخليج
جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
و يهدُّ أعمدةَ الضياء بما يُصعِّدُ من نشيج 
أعلى من العباب يهدر رغوه و من الضجيج
صوت تفجَّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق ،
كالمد يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي : عراق ،
و الموج يعول بي : عراق ، عراق ، ليس سوى 
عراق !
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما تكون 
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق 
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري، تكور لي زمانه
.في لحظتين من الزمان ، و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
، وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام 
و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب
فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
،من الدروب وهي المفلية العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شق القبر عنه أمام (عفراء )الجميلة
فاحتازها .. إلا جديلة .
أحببت فيك عراق روحي أو حَبَبْتُكِ أنت فيه
يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء
و الليل أطبق ، فلتشعا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقى بك و العراق على يدي .. هو اللقاء 
شوق يخض دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء
جوع إليه .. كجوع كل دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولاده
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متى أنام
فأحس أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرى المتهيبات خطاي و المدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في 
الدروب
،تحت الشموس الأجنبية 
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو "خطية"
و الموت أهون من "خطية"
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء ..معدنية!
فلتنطفئ ، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا .. نقود 
يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود
إلى العراق ؟ متى أعود ؟
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة .. يا نقود !
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض ، بلا بحار !
ما زلت أحسب يا نقود ، أعدُّكن و أستزيد ،
ما زلت أُنقصُ ، يا نقود ، بكنَّ من مُدَدِ اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكنَّ نافذتي و بابي
في الضفة الأخرى هناك فحدثيني يا نقود
متى أعود ؟ متى أعود ؟
أتراه يأزِفُ ، قبل موتي ذلك اليوم السعيد ؟
سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب
كِسرٌ، وفي النسمات بَرْدٌ مُشبَعٌ بعطور آب 
و أُزيح بالثوباء بُقيا من نعاسي كالحجاب
من الحرير ، يشفُّ عمّا لا يبينُ وما يبينْ : 
عمَّا نسيت وكدت لا أنسى ، وشك في يقين:
ويضئ لي وأنا أمدُّ يدي لألبسَ من ثيابي
ما كنت أبحث عنه في عَتَمات نفسي من جواب
لم يملأ الفرحُ الخفيُّ شِعابَ نفسي كالضباب ؟
اليومَ و اندفَقَ السرورُ عليَّ يفجأُني أعود !
واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدخر النقودُ
و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما يجود
به الكرام ، على الطعام ؟
لتَبكِينَّ على العراق
فما لديك سوى الدموعِ
وسوى انتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق