قصيدة الجواهري في رثاء الزعيم الوطني جعفر ابو التمن
طالَتْ – ولو قَصُرَت يدُ الأعمارِ لرَمتْ سِواكَ عَظُمْتَ مِنْ مُختارِ
من صفوةٍ لو قيلَ أيٌّ فَذُّهُمْ لم تَعْدُ شَخْصَكَ أعينُ النُظَّار
لكن أرادتْ أن تحوزَ لنفسها عَينَ القِلادةِ فازدَرَتْ بنُثار
وأرى المنايا بالذي تختارُهُ للموتِ عاطلةً ، وذاتَ سِوار
فطوَتْكَ في دَرْج الخُلودِ فعطَّرتْ بك سالفَ الأحقابِ والآثار
واستنزلَتْكَ لغُربةٍ ولأنتَ مِن عَلياك في لَجِبٍ من الأنصار
وتجاهَلتْ أنَّ البلادَ بحاجةٍ لكَ حاجةَ الأعمى إلى الإِبصار
مُدَّتْ من الأُخرى إليك معاصمٌ مِن رفقةٍ لك قادةٍ أبرار
خُلصاءِ سَعيِكَ في الجْهاد وإخوةٍ لكَ في الوفاءِ المحضِ والإِيثار
ورفاقُ هذي الدار فيما أسلَفوا للكاتِبَيْنِ رفاقُ تلكَ الدار
بَكَرَ النَّعِيُّ فما سَمعتُ بمِثْلها عِبءاً على الأسماعِ والأبصارِ
رَمتِ العَماياتُ العيونَ وصَكَّتِ الأسماعّ صافرةٌ مِن الإِنذار
وترنَّحَ الأحرارُ يؤذِنُ بَعضُهُمْ بعضاً بفقدهُمِ أبا الأحرار
لله درُّكُّ مِن نقيٍّ لم يَنَلْ أذيالَهُ وَضَرٌ مِن الأوضار
في حيثْ تزدحِمُ الشكوكُ وترتَمي شُبُهاتُها حتَّى على الأخيار
خاضَ السياسةَ وانجلى عن لُجَّها ألِقَ الجبينِ مكلَّلآً بالغار
في حينَ رامَ سِواه خوضَ عُبابها فطغى عليه فضاعَ في التَّيار
وصليبُ عُودٍ حينَ بعضُ مُرونةٍ في ضَعفها خطرٌ مِن الأخطار
وطَريُّ نفسٍ حينَ بعضُ صلابةٍ في عُقمها حجرٌ مِن الأحجار
وخَفيُّ كيدٍ حيثُ يسمو كائدٌ ومن المكايدِ جالبٌ للعار
وصريحُ رأيٍ لم يَحِد عن خُطَّةٍ ليلوذَ من تأويلها بجِدار
حَرْبٌ على مُستعمِرٍ وربيبهِ ومُسالِمٍ مُستَعْمِراً ومُجاري
أعزِزْ عليَّ " أبا عزيزٍ " أنْ أرى حُضَّارَ حفلِكَ زائغي الأبصارِ
خَلَتِ المحافلُ من عُلاك وأوحشتْ من بَعْد وجهِكَ ندَوةُ السُمَّار
وتَعَرَّتِ الأنظارُ عن مُستَشرِفٍ بادي السَّنا ، عالٍ على الأنظار
ولقد يَعِزُّ عليكَ أنَّكَ لا تَرى في " الأرْبِعاء " مواكبَ الزُّوّار
أأبا عزِيزٍ كنتَ تُذكي جذوتي ويَلَذُّ سَمْعُك مَنطقي وحِواري
غوْثَ الصريخِ ، أتتك تُعوِلُ حُرَّةٌ حَّراءُ صارخةٌ من الأشعار
هَيَّجتَ منّي أيَّ داءِ كامنٍ وقدحتَ منّي أيّ َزندٍ واري
قسَماً بيومِكَ والفُراتِ الجْاري والثورةِ الحمراء والثُّوّار
والأرضِ بالدَّمِ ترتوي عن دِمْنَةٍ وتَمُجّهُ عن روضةٍ مِعطار
والخيلِ تَزحفُ لم تَدَعْ لمُغيِرها جثثٌ تُغَطي الأرضَ أيَّ مُغار!
قسَماً بتلكَ العاطفاتِ ولم تكُنْ لي قبلَها من حِلْفةٍ بالنَّار
إنَّ الذينَ عهِدتَهُم حطَبَ الوغى لولاهُم لم تشتعِل بأوار
والَّلاقِحينَ نَتاجَها بأعزِّ ما ملَكَتْ يمينٌ من حِمىً وذمار
والداهناتِ دماؤُهم لِمَمَ الثَّرى والمُؤنساتِ شواطئَ الأنهار
والناحرينَ مِنَ الضَّحايا خيرَ ما حَمَلَت بُطونُ حرائرٍ أطهار
ما إنْ تَزالُ حقوقُهُمْ كذَويهمُ في الفَقْر سارحةً معَ الأبقار!
وأعزُّ ما تبغي الحلائلُ مِنهمُ أنْ تُسترَ العَوراتُ بالأطمار
خمسٌ وعشرونَ انقضَتْ وكأنَّها بشخُوصِها خَبَرٌ منَ الأخبارِ
ضِقنا بها ضيقَ السجينِ بقيدهِ من فَرْطِ ما حَمَلَتْ من الأوزار
وتَجَهَّمَتْ فيها السماءُ فلم تَجُدْ للخابطينَ بكوكبٍ سيَّار
شاخَ الشبابُ الطّيبون وجُدّدتْ فيها شَبيبةُ شِيخةٍ أشرار
وبدا على وَجهِ الحفيدِ وجدِّه للناظرينَ تقارُبُ الأعمار
مَن كان يحسَبُ أنْ يُمَدَّ بعُمره حُكْمٌ أقيمَ على أساسٍ هاري؟!
مَن الفظاعةِ أنْ تُريدَ رَعيَّةٌ في ظِلِّ دُستورٍ لها وشِعار
ما يَطلُبُ المأسورُ من يدِ آسرٍ إسداءَ عارفةٍ وفَكَّ إسار
ورِوايةٍ حبَكَ الزَّمانُ فُصولَها فبدَتْ لنا ممسوخةً الأدوار
من شرّ ما اختلقَ الرُّواةُ ،وَلفَّقتْ حِيلٌ ، وضمَّتْ دَفَّةُ الأسفار
وممثلينَ تصنّعاً ووراءَهمْ خَلْفَ السِتار مُلّقِنٌ مُتواري
ومفّرِقينَ مَذاهباً وعناصراً مُتَكَفِّلينَ سياسةَ استعمار
نزلوا على حُكم الغريبِ وعَرَّسوا في ظِلِّ مأْثَمةٍ له وفَجار
وتحلَّبُوا أوطارَهُ فاذا بها وَشَلٌ لِما استحلى من الأوطار
واستفرَشَ الشعْبُ الثرى ، ودُروبهُمْ مملوءةٌ بنُثارةِ الأزهار!
وتحَّلأَ الجَمْعُ الظِماءُ ووُكِّلَتْ أبناؤهم بالوِرد والإِصدار
ذُعِر الجْنوبُ فقيلَ : كيدُ خوارجٍ ! وسكا الشَّمالُ فقيلَ : صنْعُ جِوار!
وتنابزَ الوَسطُ المُدِلُّ فلم يَدَعْ بعضٌ لبعضٍ ظِنَّةً لفَخار
ودعا فريقٌ أنْ تسودَ عَدالةٌ فرمُوا بكلِّ شنيعةٍ وشَنار!
ومشَى المغيثُ على الجياع يَقوتهُمْ وعلى العُراةِ ، بجحفلٍ جرّار
وتساءلَ المتَعَجِّبونَ لحالةٍ نكراءَ مَنْ هُم أهلُ هذي الدار؟
هِيَ للصحابةِ مِن بَني الأنصار من كلِّ بَدريٍّ وكلّ حَواري
للحاكمينَ بأمرِهم عن غَيرِهم! ولصَفْوةِ الأسباطِ والأصهار
من كلِّ غازٍ شامخٍ في صدره زاهي الوسامِ ، مدِّوخِ الأمصار
هيَ للذينَ لو امتحنتَ بلاءهم لعجِبتَ من سُخْريَّةِ الأقدار
هي للذي من كلِّ ما يَصِمُ الفتى كاسٍ ، ومن جُهْدٍ يُشرّفُ عاري
ومُسلَّطٍ لمُسَلَّطينَ مشتْ به الأهواءُ مِشيةَ مُثقَلٍ بخُمار
نَسِيَ المُعيرَ ولو تذكَّرَ لأنثنى خَزْيانَ من ثوبٍ عليه مُعار
كم رامَ غيرُكَ مِثلَها فأحلَّهُ نزَقُ الغُرور بشَرِّ دارِ بَوار
بل لو تذكَّرَ لم يجدْ لضميرهِ ومصيرهِ عَوناً من التَّذكار
لم يبقَ إلَّا أنْ تُتَمَّمَ خطوةٌ ويظَلَّ يَلعبُ لاعبٌ بالنار
فلَرُبَّما نفَتِ الشَّكاةَ وقرَّبَتْ يومَ الخلاصِ سياسةُ الإصرار
أأبا عزيزٍ والحديثُ كما رَوَوا شَجَنٌ ، ومُرُّ القول عذْبٌ جاري
ومن العواطفِ ما يثورُ ويَغتلي مثلَ الجحيم ، ويرتمي بشِرار
عَفْواً وإنْ شطَّ المَدى عن غايتي ونبَتْ جيادُ الشعر عن مِضماري
فلقد تَحَشَّدَتِ البواعثُ واشتكَتْ صَمْتَ القريض لِفَحْلهِ الهدّار
ولقد عَهِدْتُكَ بالبلاد وأهلِها جَمَّ الشُجونِ ، مُوزَّعَ الأفكار
ووجدتُ قَدْحَ الذكريات شجيَّةً بَرْداً لِأفئدةٍ عليك حِرار
وعَرَفتُ أشجاناً يثيرُكَ بَعْثُها فأثَرْتُهُنَّ فطِرْنَ كُلَّ مطار
إيهٍ شبابَ الرافدين ومَنْ بهم يرجو العراقُ تَبَلّجَ الأسحار
الحاملِينَ مِنَ الفوادحِ ثِقْلَها ليسوا بأنكاسٍ ولا أغمار
والَّذائِدينَ عن الحياض إذا انتحَتْ كُرَبٌ ، ولاذَ مُكابرٌ بفِرار
والباذلينَ عن الكرامة- أُرخصَتْ أغلَى المُهورِ ، وأفدحَ الأسعار
الفَقْرَ إذ طُرقُ الغِنى مفتوحةٌ والبؤسَ إذ غَدقُ النعيم جواري
ومؤَّججينَ نفوسَهمْ وقُلوبَهمْ شُعَلاً يسيرُ على هُدها الساري
والحابسينَ زئيرَهم بصدورهم فإذا انفجرنَ بهِ فأيُّ ضواري
والقانعينَ مِن الحياة رخيَّةً بلُماظَةٍ ، ومن الكَرى بغرِار
والمغرِياتُ مُراوداتٌ ترتجى وتَخيبُ ، من عُونٍ ومن أبكار
لا تيأسوا أنْ يَلُحْ مِن ليلةٍ فجرٌ ولم تؤذِنْ بضوءِ نهار
فلئِنْ صَلِيتُمْ مِن هَناةٍ جَمْرها ومشَيْتُمُ منهنَّ فوق شِفار
فطِوالُ مُحْرِجةِ الأمور وإنْ قَسَتْ في شِرعةِ التأريخِ جِدُّ قِصار
لا بُدَّ أنْ يَثِبَ الزَّمانُ ، وينثني حُكمُ الطُغاةِ مُقَلَّمَ الأظفار
وتُجَدِّدَ الأيَّامُ عَهْدَ وصالِها مِن بَعدِ إعراضٍ لها ونِفار
فهُناك سوفَ يكونُ من زَهَراتِكم أصفى معارِفها وأطيبُ جار
وهناكَ سوفَ يَرى الغَنيِمةَ معشرٌ أنْ يُمْسِكُوا من خَلْفِكُمْ بغُبار
فحَذارِ من عُقبى القُنوطِ حذارِ وبِدارِ للعهدِ الجديدِ بِدار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق